أولاً - قواعد الإعلال بالعمى
وكلُّ مَن عماه فيه أَثَّرَا
فملحقًا بالاختلاط اعتُبِرَا
نحو ابنِ همامٍ تلقَّنَ الغلطْ
بعدَ العمى وحفظُه قد انفرطْ
فإن خلا عن العمى التأثيرُ
في حفظِه فحفظُه بصيرُ
كمثلِ حمَّادِ بنِ زيدٍ عميَا
وظل ضبطُ ما رواه باقيَا
• (وكل مَن عماه فيه أثر)؛ أي: من أصيب بالعمى من الرواة، فأثَّر في حفظه، فأصبح يخلط في الأحاديث؛ لقلة ضبطه الطارئة عليه؛ (فـ) هذا يعتبر (ملحقًا بالاختلاط)، وقد (اعتبر) كذلك بسبب عماه المؤثِّر لاشتراك العمى والاختلاط في الأثر المُفضِي إلى الحكم على الرواية بالرد، وهذا الأثر هو الخلط في الأحاديث عند روايتها.
قال ابن رجب - رحمه الله -:
"ويلتحق بهؤلاء (أي: بالمختلطين) مَن أضرَّ[1] في آخر عمره، وكان لا يحفظ جيدًا، فحدَّث من حفظه، أو كان يُلقَّن فيتلقَّن"[2]؛ (نحو) عبدالرزاق (ابن همام) الصنعاني، قال الشيخ عبدالله السعد - حفظه الله - ملخِّصًا لكلام ابن رجب: "فبعد أن أُصِيب بالعمى كان يلقن أحيانًا أحاديث ليست له، فوقع في حديثه بعض المنكرات، أو حدَّث من حفظه بدون تلقينٍ، فوقع في الخطأ"[3]، وقال فيه الإمام أحمد - رحمه الله -: "عبدالرزاق لا يعبأ بحديثِ مَن سَمِع منه، وقد ذهب بصره، كان يلقن أحاديث باطلة، وقد حدَّث عن الزُّهْري أحاديث كتبناها من أصل كتابه، جاؤوا بخلافها منها"[4].
• (فإن خلا عن العمى التأثيرُ) فلم يؤثِّر في مرويات الراوي، ولم يغيِّر (في حفظه) تغييرًا فاحشًا، فحينئذٍ (حفظه بصير)؛ أي: باقٍ على حاله لم يتغيَّر؛ (كمثل حماد بن زيد)، فقد (عمي) بصرُه، (و) لكن مع ذلك (ظل ضبطُ ما رواه) من الأحاديث (باقيَا) على حاله لم يتغير، فلم يؤثِّر العمى في محفوظاته[5]، والله - تعالى - أعلم.
ثانيًا - قواعد الإعلال بالتلقين
الأول: أن يكون التلقينُ من كتاب الراوي، لا من كتاب غيره.
الثاني: أن يكون الملقِّن - أي: الذي يقوم بالتلقين - ثقةً في دينه وأمانته.
الثالث: أن يكون عارفًا بدلالة اللغة والمعاني؛ لئلاَّ يقع في الخطأ أثناء التلقين.
ومن أمثلة ذلك:
أبو بكر بن أبي داود الحافظ، قال ابن شاهين: "أملى علينا أبو بكر سنين، وما رأيت بيده كتابًا، وبعدما عمي كان ابنه أبو معمر يقعد تحته بدرجة، وبيده كتاب، فيقول له: حديث كذا، فيقول من حفظه حتى يأتي على المجلس"[6].
قال الشيخ عبدالله السعد بعد ذكره لهذا المثال:
"فمثل هذا التلقين لا يؤثِّر"[7]؛ لأن أبا بكر تلقَّن من كتابه وهو من كبار الحفاظ، وابنه الذي لقنه ثقة أمين، قال الشيخ عبدالله السعد: "إنما كان يذكِّره بالأحاديث فقط"[8].
• (وما سواه)؛ أي: ما سوى مَن تلقَّن من كتابه على يد ثقة عارف، فـ(ما تلقن) من الأحاديث (يُرَد) فلا يُقبل، (وهو) مصنَّف (من) الحديث (الضعيف)، الصالح للاعتبار؛ لأن المتابعة عليه تدل على صحة ما تلقَّنه، وإن كان تلقينه في الجملة لا يصح، و(ليس يعتمد) في دائرة القبول للأحاديث؛ (كابن ربيعٍ)، وهو قيس بن ربيع، كان له ابن "يُدخِل عليه ما ليس من حديثِه فيحدِّث به"[9].
قال ابن نمير:
"كان له ابنٌ هو آفتُه، نظر أصحاب الحديث في كتبه، فأنكروا حديثه، وظنوا أن ابنه قد غيَّرها"[10]؛ ولذلك قلتُ: (قد تلقَّن الغلط من ابنه)، فكان يُدخِل عليه أحاديث ليست من حديثه، (وحين حدَّث) بها (خلط)، وظهر التخليط في حديثه، ولا يستلزم أن يكون الخلط في كل حديثه، وإنما في بعضها؛ كما قاله عبدالرحمن بن مهدي: "قلب عليه أشياء منها".
واعتبر العلماء التلقين الذي يضرُّ داخلاً تحت باب الاختلاط، قال شيخنا الشيخ الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي - حفظه الله -: "لأن التلقين ينشأ من الاختلاط في الضبط، فمَن اختلَّ ضبطُه فهو مردود الرواية"، والله - تعالى - أعلم.
[1] أي: صار ضريرًا، وهو مَن أصابه العمى، ويقال للضرير: بصير؛ تفاؤلاً بعودة بصره.
[2] شرح علل الترمذي (2/576).
[3] معرفة مراتب الثقات ص 44.
[4] منظومة في قواعد الجرح والتعديل للمؤلف ص12.
[5] انظر: شرح علل الترمذي (2/ 576).
[6] تاريخ دمشق (34/79)، وانظر: معرفة مراتب الثقات ص 45.
[7] معرفة مراتب الثقات ص 45.
[8] معرفة مراتب الثقات ص 47.
[9] تهذيب الكمال (6/ 134).
[10] دراسات في الجرح والتعديل، ص 146 لشيخنا الشيخ الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، عميد كلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (سابقًا