وقد يُعلُّ ما روى المدلِّسُ
إن كان في سماعِه يُلَبِّسُ
وقسَّموا المدلسين رُتبَا
خمستها مهمة للنُّجُبا
مَن جوَّزوا تدليسَه وقَبِلوا
وبعدُ مَن تدليسُه يُحتَملُ
وثالثٌ مختلَفٌ في أمرِهِ
ورابعٌ إن لم يصرِّحْ ألْقِهِ
وخامسٌ مَن فيه ضَعْفٌ وَضَحَا
تدليسُه يُرَدُّ مهما صرَّحَا
واستثنِ مَن ضعفُه لا يؤثِّرُ
كابن لهيعةٍ وذا يقدَّرُ
فقد يسمِّي شيخَه المدلِّسُ
تسميةً بثقةٍ تَلْتَبِسُ
أو يُسقِط الراوي الضعيفَ بالعمدْ
والجرح واردٌ عليه ما قصدْ
كذلك الخفي أعني المرسلاَ
يُعَلُّ بانقطاعِهِ وذا انجلى
الشرح:
(وقد يُعَل ما روى المدلِّس) الذي يروي الحديث عن شيخه الذي سمع منه - ما لم يسمعْ منه، بصيغة تُوهِم السماع، فهذا (إن كان) يأتي (في) التعبير عن (سماعه) بصيغة تحتمل السماع وعدمه، فهو (يلبِّس)؛ أي: يُوهِم المطَّلع على السند أنه سمع ذلك الحديث من ذلك الشيخ، وهو لم يسمعه، وهذا هو تدليس الإسناد، وقد يُسقِط شيخَه الضعيف بين ثقتينِ موهمًا السماع بصيغةٍ تحتمله، فهذا تدليس التسوية، وليس كل مَن روى بصيغة تحتمل السماع وعدمه؛ كعن، وأن، وقال - يكون مدلسًا يُرَد حديثه.
قال ابن عبدالبر - رحمه الله -:
"اعلم - وفَّقك الله تعالى - أني تأملت أقاويل أئمة الحديث، ونظرت في كتب مَن اشترط الصحيح في النقل منهم، ومَن لم يشترطه، فوجدتُهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك، إذا جمع شروطًا ثلاثة، وهي:
• عدالة المحدثين في أحوالهم.
• ولقاء بعضهم بعضًا مجالَسةً ومشاهَدة.
• وأن يكونوا برآء من التدليس.
والإسناد المعنعن: فلان عن فلان عن فلان"[1].
والمدلسون خمسة أقسام من حيث مراتبهم التي توجب ردهم أو قبولهم أو التفصيل في ذلك :
فالقسم الأول هو: (مَن جوَّزوا)؛ أي: العلماء (تدليسه وقبلوا) ما رواه بالعنعنة، وإن عرف عنه التدليس؛ لإمامته وديانته.
(وبعدُ)؛ أي: بعد هذا القسم وهو القسم الثاني : (مَن تدليسُه يُحتمل)؛ أي يُقبَل أيضًا، وهم من دون الأئمة الكبار، وهم أيضًا من كبار الثقات الذين احتمل النقَّادُ تدليسَهم في جانب ما رَوَوه؛ كسفيان بن عيينة - رحمه الله.
(وثالث)؛ أي: و القسم الثالث (مختلَفٌ في أمره)؛ فمَن الأئمة مَن ردَّ روايته مطلقًا ومنهم مَن قَبِلها مطلقًا، ومنهم مَن اشترط التصريح بالسماع.
(ورابع)؛ أي: القسم الرابع (إن لم يصرِّح) بالسماع (ألقه)؛ أي: اطرحه؛ فحديثه مطروح[2]، وهذا عليه الاتفاق بين الأئمة.
(وخامس)؛ أي: القسم الخامس (مَن فيه ضعف) آخرُ غير التدليس، وقد (وضح) وظهر عليه، فهذا (تدليسه يُرَد)، ولا يقبل (مهما صرح) بالسماع؛ لأن مدار الرد على الضعف مع التدليس، لا على التدليس وحده، (واستثنِ) من الرواة (مَن ضعفُه لا يؤثر) في مروياته، وهو إذا كان ضعفه يسيرًا؛ (كابن لهيعة) ضعفه يسير، (وذا يقدر)؛ أي: بحسب ما احتفَّ بكل حديث من قرائنَ على انتفاء ذلك الضعف اليسير، أو وجوده، والتصريح من عدمه[3].
(وقد يسمِّي شيخَه المدلِّسُ)؛ أي: وقد يسمي المدلسُ شيخَه - تقدَّم المفعول على الفاعل - (تسميةً) تشتبه (بـ) اسم راوٍ (ثقة)، و(تلتبس) على الناظر في الإسناد؛ فيظن الاسم هو اسم الثقة، ويكون ظاهر الحديث السلامةَ على هذا الاعتبار، ويسمُّونه تدليس الشيوخ، وهو يُفضِي إلى إعلال الحديث إذا كان الشيخ الذي سماه المدلِّس ضعيفًا، (أو يُسقِط) المدلسُ (الراوي الضعيف)، وهو شيخه الذي روى عنه، (والجرح واردٌ عليه)؛ أي: يحق عليه، فيُجرَح بذلك (ما) دام قد (قصد) إسقاط الراوي الضعيف بين ثقتين، يريد إخفاء ضعفه.
قال السخاوي - رحمه الله -:
"وإنما اعتبر التدليس جرحًا؛ لما فيه من التهمة والغش، حيث عدل عن الكشف إلى الاحتمال، وكذا المتشبِّع بما لم يعطَ؛ حيث يوهم السماع، والحديث عنده نازل"[4].
ومثله إذا كنَّى شيخه بكنية تشتبه بكنية ثقة، وهذا موجب لجرح الراوي، إذا تعمَّد إسقاطَ الضعيف وهو يعلمُ ضعفَه.
قال شيخنا العبدالعزيز العبداللطيف - رحمه الله -:
"والتدليس من حيث تعلُّقُه بجرح مَن فعله نوعان: الأول: مَن لم يتعمَّد فاعلُه إسقاط مَن يعتقد ضعفه من الرواة.
الثاني: مَن تعمَّد بالتدليس إسقاطَ مَن يعتقد ضعفه من الرواة، ولا إشكال في جرح التدليس والإرسال لعدالة مَن فعله مستحلاًّ له بإسقاط راوٍ ضعيف يعتقد ضعفه، ويعلم أنه كذلك عند غيره"[5].
(كذلك الخفي أعني) به (المرسلَ) الخفي، (يعل بانقطاعه)؛ لأنه رواية الراوي عمَّن عاصَرَه ما لم يسمع منه بصيغة تُوهِم السماع، (وذا) قد (انجلى) واتَّضح أمره؛ لأن الراوي إذا كان معاصرًا للشيخ؛ أي: في طبقة تلاميذه، ولم يلقَ ذلك الشيخ؛ فالانقطاع هنا خَفِي في الأغلب، يلتبس أمرُه على كثيرٍ من الدارسين للإسناد، والمقصود بهذا الباب أن التدليسَ والإرسال الخفي قد يرد بسببهما الانقطاع الخفي، فيكون ما روي مدلسًا أو مرسلاً خفيًّا من قبيل قسيم المُعَل كالمضطرب وغيره، والله - تعالى - أعلم.
ــــــــــــــــــــ
قاعدة في إطلاق بعض الأئمة التدليس على الإرسال:
قال أبوالحسن:
وبعضهم إن قال : (دلس) عَنَي
ما أرسَلوا أيضًا وذا تبيَّنا
كالذهبيِّ والنسائيِّ وزدْ
مؤلِّفَ "الثقات" البُستي واجتهدْ
(وبعضهم)؛ أي: بعض أئمة الحديث (إن قال) في حكمه على الراوي: (دلس) من التدليس، وقد سبق الكلام عليه، (عنَى)؛ أي: قصد بذلك (ما أرسلوا)؛ أي: ما أرسله الرواة، سواء إرسالاً خفيًّا أو جليًّا (أيضًا)؛ أي: إن بعض الأئمة يطلقون أيضًا وصف التدليس على مجرد الإرسال، (وذا تبين) من أقوال أولئك الأئمة، ومِن تتبُّعِ أحكامهم على الرواة ومرادهم من وصف التدليس (كالذهبي) - رحمه الله - قال: "المدلس: ما رواه الرجل عن آخر ولم يسمع منه أو لم يدركه"[6]، فهذا التعريف اشتمل على حالتين يكون بهما الحديث مدلسًا:
الأولى: رواية الراوي عمَّن لم يسمع منه.
الثاني: رواية الراوي عمَّن لم يُدرِكه.
ففي الحالة الأولى تعميم يدخل تحته الحديث المرسل بمعناه العام، وفي الحال الثانية يشمل حتى رواية الراوي عمَّن لم يعاصره، وهذا يدخل تحته المرسل الخفي.
(و) الإمام (النسائي) أيضًا أطلق لفظ التدليس على الإرسال، وانفرد بوصف جماعة بالإرسال دون الأئمة النقاد، (وزد) عليهما الإمام ابن حبان (مؤلِّف)كتاب (الثقات)، وهو محمد بن حبان البستي، المتوفَّى سنة 354 هـ، إمام من أئمة الجرح والتعديل، وكتابه "الثقات" من أهم كتب التراجم والجرح والتعديل، لا غنى للباحث عنه في الوقوف على تراجم الرواة ودراسة الأسانيد، وقد ترجم مثلاً لبشير بن المهاجر في كتابه "الثقات"، فقال عنه: "دلَّس عن أنس ولم يَرَه"، فلا بد قبل الحكم بالتدليس على الراوي في روايته من النظر في مراد وصف الأئمة له بالتدليس، لا سيما الذهبي، والنسائي، وابن حبان؛ فالعبرة ليستْ بوصف التدليس، وإنما بثبوت الوصف على الراوي، وهذا تمامًا كالوصف بالاختلاط ونحوه، قد يكون المراد غير ذلك، وقد سبق التنبيه عليه، والله - تعالى - أعلم.
[1] مقدمة فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبدالبر ص 32؛ للشيخ محمد بن عبدالرحمن المغراوي.
[2] أي: مردود، والمطروح اصطلاح خاص عند الذهبي، له معنى آخر؛ فهو عنده في درجة بين الضعيف والموضوع، فهو يرادف بذلك المتروك في الجملة، أما هنا، فالمقصود هو الرد.
[3] انظر هذه الأقسام في كتاب "تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس"، ص 13 - 14.
[4] فتح المغيث (1/180).
[5] ضوابط الجرح والتعديل ص 120 الحاشية؛ لشيخنا العبدالعزيز العبداللطيف - رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
[6] الموقظة؛ للذهبي ص 47.